الأساليب الإلقائية في المناشط الدعوية

  • فضيلة الشيخ د/ عزيز بن فرحان العنزي
  • : 1352
إن من علامة النجاح للداعية أن يكون بصيراً بالأساليب الدعوية التي يقوم بها، ولنأخذ مثالاً واحداً لذلك، وهو: الأسلوب الخطابي في المناشط الدعوية، فالأساليب الإلقائية تختلف حسب نوعية المنشط الذي يقوم به الداعية، فمن علامات النجاح للداعية أن ينوع أسلوبه الخطابي من منشط لآخر، وفق دلالات المعنى الذي يقتضيه المنشط، وألا يسير على وتيرة واحدة في الإلقاء، سواء في المنشط الواحد، أو في المناشط المتنوعة، فما تحدثه لغة الصوت من أثر في نفسية المستمع، من: قوة وشدة، ونعومة ولين، وخفض ورفع، وما يصاحبها من وضع انفعالي يتناغم مع الحركة والصوت، أمر في غاية الأهمية والضرورة، وأثره يلمسه المراقب والمهتم والمنشغل في ميدان الدعوة، والمستقرئ لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد هذا ظاهراً.
وفي الحقيقة أصبحنا نشاهد خلطاً كبيراً لدى شريحة من الدعاة، والخطباء في العالم الإسلامي، بين هذه المناشط من جهة الالتزام بالمنهج الشرعي لها ومن حيث أسلوب الأداء.
فخطبة الجمعة مثلاً قائمة على التنبيه، ولذلك وصفت خطب النبي صلى الله عليه وسلم بالاختصار، والإيجاز، والقصد، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم قصر خطبة الرجل وطول صلاته علامة على فقهه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل في خطبة الجمعة رفع الصوت، حتى يصفه بعض الصحابة بأنه إذا خطب علا صوته، واشتد غضبه، واحمر وجهه، كأنه منذر جيش، يقول صبحكم أو مساكم، وكان كلامه سهلاً مستعذباً، لا تمله الأسماع، يفهمه كل من سمعه.
وأصبحنا نشاهد بعض المخالفات الظاهرة لدى شريحة كبيرة ممن يرقون أعواد المنابر، وأذكر هنا ما يتعلق بالأسلوب الخطابي، من ذلك:
الإلقاء المجرد عن الحماس والانفعال المنضبط بالقواعد الشرعية، والأصول المرعية، وجلب اهتمام المصلي وتفاعله مع الخطيب، حتى إن النوم ليتسلل إلى المستمع بسبب برودة الإلقاء وضعفه، خاصة إذا صاحب ذلك قراءة الخطبة من ورقة.
سرد خلاف أهل العلم في المسائل الفقهية، فتجد البعض يفصل لك في المسألة بسرد خلاف الفقهاء، وينتقل إلى الترجيح عن طريق المسالك العلمية، والمدركات، وفي الحقيقة أن المنبر ليس مكاناً لهذا التفصيل، والعرض للمسائل الخلافية، ولا يخفى أن أغلب الحضور من العامة، فإيقافهم على هذا النمط من التعليم إفساد لهم، وتشتيت لأفكارهم، وزعزعة لثوابتهم.
من الممكن أن تكون هيبة الصعود على المنابر قد زالت في هذا الوقت، بسبب عوامل عدة، من ذلك توفر الخطب المكتوبة، وانتشار الكتب والبرامج التي تدرب على الخطابة، ولكن يلحظ أن بعض الخطباء أصبح يخلط بين الخطب الشرعية، والخطب العامة، كالحفلية، والسياسية، والوعظية، فتجد مثلاً بعض الخطباء في الجمعة يستخدم أساليب خطب الاحتفالات: من كثرة الالتفات والنظر إلى الحضور جميعهم، وكثرة التعبير بالإشارة، والتجاوز بها موضع الحاجة، وأيضاً محاولة استجواب المستمعين عن طريق طرح أسئلة ما، ومطالبة المصلين بالإجابة عن سؤاله سواء كان إنكارياً، أو غيره، ظناً منه أنه بهذه الطريقة يستطيع جذب اهتمام المصلين، والحفاظ على قدر كبير من حضورهم وتفاعلهم معه، فيشكر على هذا، ولكن ما هكذا تورد يا سعد الإبل، بل إن بعض الأساليب تمثل خروقاً لقدسية الخطبة من خلال تعمد الإتيان بقصص أو مواقف مضحكة، لايملك المستمع إلا الضحك معها.
فخطبة الجمعة عبادة لها أركانها وشروطها وواجباتها وسننها وآدابها، فليس هناك مساحة للاجتهاد في هذه العبادة، ولاتُشبَّه بباقي الخطب، وذلك لخصوصيتها الشرعية.
وفي المقابل نجد في مناشط الدروس العلمية، والمحاضرات العامة ظواهر خاطئة من جهة الأسلوب الإلقائي، من هذه انتشار ظاهرة رفع الصوت رفعاً كبيراً، حتى إن المار وهو يسمع صوت الملقي ليظن أنه يخطب للجمعة، أو أنه منذر جيش، ومعلوم أن الدرس العلمي والمحاضرة العامة قائمان على التفهيم والتفصيل والبسط، ويحتاجان من الملقي إلى هدوء تام وخفض صوت بالقدر الذي يمكن أن يصل إلى المستمع، وقد يحتاج الملقي إلى تكرار الكلام ثلاثاً للتفهيم، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، أما الرفع بهذه الطريقة فليس من المنهج الشرعي، ولا الطبيعي في الدروس العلمية، ولا المحاضرات العامة، ولا يمكن أن يخرج المتلقي بفائدة دائمة وهو يتلقى بهذه الطريقة التي لم يكن مهيأًً لها نفسياً وبدنياً بسبب الانفعال، ورفع الصوت، ولا يمكن أن يسير الملقي أيضاً على وتيرة ثابتة، تربط آخر الموضوع بأوله.
فينبغي على الداعية أن يتحرى في الدرس تفهيمه بأيسر الطرق، وأن يذكره مسترسلا، مرتلاً مبيناً، واضحاً، ويؤخر ما ينبغي تأخيره، ويقدم ما ينبغي تقديمه، ويقف في موضع الوقف، ويصل في موضع الوصل، ويكرر ما يشكل من معانيه وألفاظه، إلا إذا وثق بأن جميع الحاضرين يفهمونه من غير ذلك، وإذا فرغ من مسألة، أو باب، أو فصل، يسكت قليلاً حتى يتكلم من في نفسه كلام عليه، أو يطلب إيضاحاً، وهذا ينطبق على المحاضرة أيضاً.
فمعرفة الأساليب الخطابية، وتنوعها بين المناشط العلمية والدعوية في مرتبة الضرورة للداعية، وقد يكون من المفيد، بل من اللازم مطالعة أبواب الجمعة من كتب الصحاح، والسنن، والمسانيد، وشروحها، وما كتب استقلالاً بهذا الخصوص